الخميس، 6 فبراير 2020

عواصِفُ فبراير!

مع هبوبِ أول عاصفة في شهرنا هذا يتلعثمُ فمي وأكادُ أشعر أني أتنفسُ بصعوبة كعجوزٍ بالغة من العمرِ تسعين عاماً ورُبما أكثر. أبدأ العد التنازلي لمولِدي.. ولكنه مازال يصعُب علّى تحديدُ عمرِي بَعْد.  
فأنا تلكَ الشابة اليافعة التي تذهب هنا وهناك ولا يعكِرُ صفوها شيئ،  ترتدي حِجابها ونظارتها الطبية ولا تضع مساحيق التجميل المُزيفة وتمشي والثقة تملأها وتفيضُ . تذهَبُ لدرسِها لتتفوقُ علي الحضورِ بدون أدني مجهودٍ منها ؛ مما يجعلها مَرْنوّ إليها دائماً وربما جُعِل لها من اسمها نصيباً. تري نفسها دائماً شخصاً عادياً أو ربما أقل من ذلك ، لا تعلمُ لماذا دائماً يؤذيها البشر! فأين مردود أفعالها؟ لا تحمِلُ الضغينة لأحدٍ ولكن يحملُها لها الكثيرون. وأنا تلك المرأة العجوزُ ذات الحجاب الأزرق الذي ينسابُ ليكشف عن خُصلاتِ شعر بُني اللون يلمعُ بشدة يُذكرني بالشوكولاتة وترتدي رِداءً أسوداً طويلاً يكادُ يغطي كل بقعة في أرض الطريقِ أيضاً، تسيرُ في خطىً مُتباطئة غير منتظمة حتي تصلَ إلي السوق القريب لتقضي حاجتها بعدما رحلَ أبناؤها إلي الخارج. تذهبُ لبيتها لتطهي طعامِها ثم تضعه في الصحونِ وترصَه علي المائدة وتتخيلُ أشخاصاً وهميين ليأكلوا ويتحدثوا معها.  تعلَمُ جيداً أنها تتخيل أوهامًا ولكن هل تري هناكَ حلًا آخر؟ 
تري؟  أنا ذلك القصرُ الأبيضُ الواسع ذو الأدوار العالية الواسعة ، بهيبته المرئية يُبهر الرائي في كل مرة يراه فيها ولكنه يخاف الدخول في باطِنه. الجميعُ يخاف البحثَ في أسراره وخباياه! الجميعُ جبناء، الجميعُ يغضون الطرفِ.
وأنا ذلك الجُندي ذو الرداء الزيتوني اللون، يحمل معه قارورة ماء ليروي عطشه في الصحراء؛ لا أعلم أهذا عطشًا مادياً أو عطشًا روحياً؟ هل تُروي الماء عطشُ الروحِ؟ 
ذهبَ الجندي ليُدافِع عن فلسطين أرضُ العرب والتي ستظل أرض العربِ ! أرهقته المداعسة، يشعرُ أن قضية فلسطين قضيتُه الأولي ولابد أن يكون في الطليعة.
وأنا آسفة أتمثلُ في هذا الحِطامُ ، الذي نتج عن سقوط مبني قلبي ؛ تحطمت معه الذكرياتُ والأحلام كلها ، حتي شعرتَ أنه لم يبق لي شيء أتذكره وأبتسم. الجميعُ يروّن الحطامَ ولكن لا يقربونه ؛ يخافون من هبوبِ نسمات الذكريات والتخاريفِ عليهم؛ فتتسخُ ملابسهم . الجميعُ يتقبلني في نوري ولكن لا أحد يُحب عتمتي.الجميعُ تركوني. أعيشُ أقصي لحظاتي وحدي!  
 وأنا تلك الأُم الجميلة التي تخلَت عن أحلامِها في سبيل إحياء أحلاماً أُخري لأُناسًا أخري، أنا من يزرَع ورودًا داخل أبنائي في كلماتي حتي أري أحلامي تتحققُ فيهم ولا أشعر أني تخليتُ عن بعضِها!
 وأنا هذا الطالِبُ في تلك الكلية الأجنبية، يستيقظُ باكراً ليدرُس العديد من الموادِ ويُصارِعُهم جميعاً حتي ينتصِرُ في النهاية. فهو حتماً لا يقبَلُ الخُسارة.يتمرمغُ كل يومٍ في العديد من التجارُب والتحدياتِ حتي يصل إلي غاياته المرموقة ! ولكن كيفَ السبيل إلي ذلك؟  هل يُمكننا أن نزعم أننا في طريقِنا إلي "خراسان" ونحنُ مازلنا نسيرُ متجهين إلي أمريكا الشمالية؟
  وأنا ذلك الحبيبُ المُحطَم ؛  تركه حبيبه زاعمًا أنه أخطأ في حقه، وأنه لايُريد المكوث معه بعدما كان مأمنه وأمانه ومسكنه وسكنه! أقُلِبت الآية؟.  مازال ينتظرُ رسالة واحدة مما اعتادها قديماً، مازال يرددُ عابِثًا : 
  "أنت الحبيبُ ولكني أعوذ به 
  من أن أكون محباً غير محبوبا " 
  وأنا تلك النفسُ المنهكة، التي ضلّت الطريقِ إلي الحق، مازالت تكذِبُ علي صاحبها وتعده ألا ترجعُ إلي الخيبة مرة أخري وتعود!  
  أيتها النفسُ : كُل حالات الكذبِ مقبولة لديَّ إلا أنتِ يا نفسي، زعمتي أنكِ نسيتي ولن تحفلي مجددًا ومع أول طريق للرجوع اضطربتي وتاه رُشدك واحتار قلبك ، من أنتِ يا نفسي؟ من أنتِ يا نفسي؟ أصبحتُ لا أفهمُكِ ، أصبحتُ لا أطيقك!  
وأنا هذة الطفلةُ الصغيرةُ ، ترتدي فستانًا قصيرًا مُزهرًا وتمشِطُ شعرها الأسودَ الطويل لينسابُ علي ظهرها ؛ تحسدها عليه جميعُ الفتياتِ.  تمشي وتلهو هنا وهناكَ مع سائر الأطفالِ ثم تقعَ علي رُكبتيها لتنجرِح وتبكي بكاءً شديداً ، ككل لحظاتِها الحلوة لا تكتمل! تلك الطفلَةُ التي لا تعرِف كيف تتمكَنُ من الإمساكِ بقلمِها بشكلٍ صحيح ويُساعدها الجميعُ علي ذلك، كيفَ أصبحَت تُكمِلُ جملًا صحيحةً مُنسقة بعضُ الشيئ كالتي تقرأها الآنَ يا رفيق!
كَم كلَفها وقتاً؟ كَم كلَفها جهداً؟ كَم كلَفها عُمرًا؟  
الآنَ تحيَر عقلي وعجَزَ عن تحديدُ عُمري...  
فهل أنا الطفلة ذات الخمسة أعوام؟ 
أم أنا الجندي ذو الثلاثين عاماً؟  
أم أنا العجوز ذات التسعين عاماً؟  
أم أنا الطالِب ذو العشرين عاماً؟ 
أم أنا الأم ذات الأربعين عاماً؟  
أم أنا الشابة ذات التسعة عشر عامًا؟ 
أم أنا القصرُ... ؟ 
أم أنا الحِطامُ ... ؟
أم أنا النفسُ... ؟ 
أم أنا الحبيبُ غيرَ المحبوبِ ... ؟ 
أنا جميعُهم!  
تاهت خُطاي مُجددًا حتي نلتقي في كلماتٍ أُخري ! 
#رنا_هشام 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقبرة الأحلام..

 عزيزي.. أنتَ الذي لا أعرف لك اسمًا ولا أعلم لك صفةً أُناديك بها، لذّا فأنت عزيزي فحسْب. صاحب العمرِ المقبل، ورفيق الدرب الطويل. عساك بخيرٍ ...