جئت اليوم كاتبةً ذلك ولست أدري ما منتهي كلامي، تشاجرت الأفكار المتشابكة علي المكان الخالي الوحيد في عقلي.. الذي نفسه هو الذي ألَّح علّي بالذهاب للجلوس وحيدةً في مكانٍ مفتوح.. رُبما لم أكن أعلم عما سوف يتحدث معي عقلي؟ ما الذي سوف يقترحه علّي؟ هل سأحتسي بعض رشفات القهوة بهدوء أم ستتصارع عليها الأفكارُ أيضاً؟ لا بأس علي أي حال لبيتُ نداء عقلي.. وذهبتُ بالفعل وجلست ومقابلي مقعد لشخصين، كان فارغاً في بداية الأمر ومن طبعي أنني لا أُريد الانغماس في حياة الآخرين وددتُ الجلوس في مكانٍ بعيد فاخترتُ المقعد الفردّي المقابل للمقعد ذاكَ.
فتحتُ هاتِفي لأقرأ بعض الصفحات من كتابي الحالي وانغمست فيه اقرأ وأُسجِل حتي سرقني الوقتُ وشعرتُ بالتعب فأغلقتُ هاتِفي وبدأتُ أرفع رأسي شيئاً فشيئاً حتي لاحظت امتلاء المقعد المزدوج الذي يُقابِلني.. كان يملؤه أمرأة عجوز وزوجها، كان المشهد أكثرُ من رائع وكنت أظن أن عبيرَ الحُبِ قد فاحَ لتصل إلّي بعض نسماته...
كانوا يتبادلون أطراف الحديثِ حتي نهضت الزوجة إلي المقهي كي تُحضر بعض المشروبات الساخنة.
وحتي أكونُ صادقة فأنا لم أغفل عنهم منذ البداية، لم أكن أعلم ما الأمرُ ؟ لماذا قلبي ،عقلي وعيني قد تجمعوا سوياً عليهم؟ لماذا شعرتُ أنني بحاجة إلي رفيقِ حتي المشيب، ربما أصدق حُب هو ذلك الحب.. فلا عاد جمال ليُغريه ويجذبه! حُبٌ من الروحِ إلي الروحِ فحسب ...
ولكن بحكم كوّني شخصاً لا يتوقع النهاياتِ السعيدة أبداً - وذلك بالطبع خطأ فادِح- ولكن تلك هي طبيعتي، لاحت أمامي فكرة الفِراق، وكيف لهذين الرفيقين أن يذهب أحدهم تاركاً الأخر يضيع! يضيع؟ نعم، وهل هناكَ أشد وأقسي من ذلك ضياع للروح وإنهاك للحب!
وجاء عقلي متسائلاً متعجبًا ليتبع فكرة الفِراقُ قائلاً : لماذا يرحَلُ الناس؟ لماذا يزرعون بداخلنا ورودًا ثم يتركوها لتذبل؟ أتذكرُ أنني قرأت منذ فترة اقتباسًا يقول "لقد ذَبِلَ وردُ قلبي يا حضرة الساقي! " ما أقساه من تعبير.. بل إنه مَذلةٌ ومهانةٌ!
كيف لنا أن نطلب السقاية مِن مَن تركنا ورحل؟ لو كان يريدُ الحُب لم يكن ليرحل.. لم يكن ليترك مزيدًا من الأسئلة -بلا إجابة- تدورُ في رأسي كل ليلة..
تبع ذلك عقلي بسؤالٍ : لعله هناكَ حكمةً من الله للفِراق؟ فكل شيء يكتُبه الله لحكمة! وكُلُنا مسلمون بذلك القضاءِ عرفنا الحكمة أم جهلناها! فآيات سورة الكهفِ خيرُ دليلٍ ! لعلّنا لم نُحط خبراً بحكمة الفِراقُ بعد! لعلنا نعرفها أو نموت ونحنُ جاهليها.. لله الأمرُ مطلقًا!
"وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ؟ " (سورة الكهف)
ولكن الأسباب الظاهرية أمامنا الآنَ تتمثل في عدة نِقاط منها : حُب الله لنا!
ماذا تقول يا عقلي؟ حُب الله لنا يتمثل في فِراقهم؟
نعم، أعني ذلك يا صاحِبتي.. فلعل الله يُغار علي قلوب عباده، ومن حبه لنا.. يجعل قلوبنا متعلقة به وحده!
"يبتلي الله العبد بأحب الناس إليه، ليريه أن الناس تتخلى عمن أحبت والله لا يترك من أحب." (جلال الدين الرومي )
ومن ناحية آخري، ربما تلك النهاية هي نفسها التي تسطر أحرُف البداية في قصةٍ أُخري! فكيف لنا أن نُعطي أنفسنا الحقُ في الحكم على القصة من خلال أول فصلٌ فيها؟
وتتجلي العديدُ من الأسباب الكثيرة منها التسليمُ بحكمة الله في موت الناس وبعثهم.. حينها لم يبقي أحداً علي وجه الأرضِ وسنكون جميعنا قد رحلنا وتتجلي تلك الحكمة بعبقرية في قول اللّه تعالي في سورة القصص :
( وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۘ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )
وهنا تتضح لنا حتمية رحيل كل شيئ إلا وجه الله عز وجل شأنه..
وتتوالي الأسباب الكثيرة والكثيرة.. وربما الحكمة لديكَ مازالت مُبهمة حتي تلك اللحظة التي تقرأُ فيها!
قد تداخلت فكرة الفراق والرحيل علي عقلي حتي تناست عيني ما رأته.. لقد عُدتُ مجدداً لأختلس النظراتِ عليهم، كان كُل منهم يحتسي قهوته وهو ينظر إلي رفيقه، رأيتُ في ذلك المشهد مشاعر متطايرة.. وورورد متفتحة حولنا! والنهاية هُنا لم تكن حزينة كالعادة، بل بعثت في نفسي الأمل وأقامت جدارَ روحي بعدما هدمه الرحيلُ المُبرِح!
قامت لتُساعِد زوجها في مشيه وتُسانده ، كانوا في غاية الجمال والروعة بارك الله لهما، ظلوا كذلك سوياً حتي اختفي أثرهم عن عيني..
وظللت أنا حالمة في خيالي مقتضية بهم متمسكة بروحي لأُدللُها حتي تساندني لأخرِ العمرِ ..
ومما يستحقُ الذكرِ أن ذلك المشهَدُ كان في "المستشفي " لستُ أدري مَن منهما كان يُعينُ الأخر علي مرضه، ولكنهم هما الأثنان قد أعانوني لكي أؤمن بالنهايات المُرضية المطمئنة حتي وإن بعثت في نفسي الروعَ !
لا أظنه أخر لقاء مع عقلي لنتناقش في مثل تلك الموضوعات والأقدار...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق